بسم الله الرحمان الرحيم
مرحبا بكم في منتديات رقيق القلب
البحث الاول
الغزو الثقافي والفكري
إن القول بأن " الغزو الثقافي والفكري " تعبير عن الوهم أو الرسوخ لـ" نظرية المؤامرة في الأذهان" قول يفضي بطريقة أو بأخرى إلى براجماتية نرجسية تمارسها بعض الفئات النخبوية ( الإنتلجنسيا ) لتخليص ذواتها من عقد ذنبية ما تجاه الكينونات المبتذلة حضاريا في تسميات " العالم الثالث ".. فالغزو الثقافي والفكري ( وبالتالي الغزو الاقتصادي) من أهم سمات " هيمنة الحضارة الحديثة الصناعية !! " التي كرسها" النموذج السوبرماني العسكرتاري الغربي " ضمن تخطيط مؤامراتي عالمي لعبت فيه - وما زالت تلعب - الصهيونية العالمية - بالنسبة لقضايانا المصيرية تحديدا - الدور الحاسم في رسم الخريطة الشرق أوسطية المفككة المتنازعة والمهمشة المستهلكة ..
فالغزو الثقافي والفكري الحديث من أخطر الإشكاليات " الغزوية " على ممر التاريخ البشري ، وذلك لسبب بسيط وهو أن الخسائر التي تحدث عادة فيه أعمق بكثير من الغزو العسكري مثلا ، أو من الغزو الاقتصادي ،أو حتى الغزو الاستيطاني ، لأن مثل هذه السياقات من الغزو تفترض أن يحدث في مقابلها ردة فعل مقاومة لإنهاء الغزو الطارئ المحدد ، كما حدث محليا في مواجهة الغزوات الصليبية، والغزوات التتارية ، والاستعمارين البريطاني والفرنسي لبعض البلاد العربية حديثا ، أو المواجهة الدائمة - منذ مطلع هذا القرن - للاستيطان الإسرائلي ..لكن الغزو الثقافي والفكري يتمتع باستلاب حقيقي للجبهة المقاومة ، بحجة غيابه عدوا مباشرا ماديا !!
ولعل الحقيقة المرة هي أن ثقافتنا الكلية في زمكانيتها المعاصرة تعاني من تكريس لنماذج التبعية الثقافية،وهو تكريس ينجز بالتالي غبن الذات عندما يحررها ضميرها " الجمعي" المشوه - ادعاء ومزايدة- من التبعية للآخر ، ومثل هذا الغبن لا يمكن أن يثبت أو يبرهن نفسه على المستوى الإنتاجي الوقائعي ، لأنه في جوهره لا يتجاوز لغة شعارية استهلاكية محلية " يطبطب بها على الآلام ، وترثي بها الهزائم وتنتج بها الانتصارات الوهمية الحاضرة .. ، أو أن تكثف اللغة الشعارية من استعادة التاريخ المجيد لتغييب الحاضر المهمش، وتعميق الاستكانة واللامسئولية !!
ومن السهل علينا - إذن - أن نبكت الذات (بطريقة مازوخية ) ..أو نبلدها ( بطريقة ديماغوجية)…لكننا في حقيقة أمرنا وأمر ثقافتنا بحاجة ماسة إلى البحث عن المخرج ، إلى إيجاد الوسائل التي تمكننا من تحدي الآخر ، إلى رعاية الذات لا تدميرها ، إلى تحقيق متوالية الانتصارات للحد من متوالية الهزائم ..كيف يتم تحقيق مثل هذه الأشياء وغيرها ؟!! ستكون الإجابة محك أي مقاربة ثقافية منجزة ..
وفي ضوء ما سبق لا يمكنني وضع السياق الثقافي المجابه المتكامل نظريا من وجهة نظر فردية تختزن الوعي الثقافي الجمعي ، لذلك سأشير إلى بعض المحاور التي أراها مهمة في الخروج من المأزقية الراهنة .. منها : التحول من بنية الاستهلاك إلى بنية الإنتاج ، وتعميق الوعي الثقافي بتربية دينية ووطنية منفتحة على الموروث والآخر، ومحاولة تشييع ودفن الشوفونيات الإقليمية والانتحارية، وتشييد روح الثقة والتواصل بين الفرد وسياقه المؤسساتي ، وتمكين المؤسسات المحلية الإنتاجية (الرسمية والخاصة ) من ممارسة إنجازاتها بثقة في فضاءات
خاماتها المختلفة ، وصياغة ثقافة إعلامية إنتاجية تبني حركية اجتماعية اقتصادية ثقافية … متوازنة ذاتيا وموضوعيا …وتشجيع روح المغامرة والتجريب والدينامية لتوليد بنية اجتماعية محلية قادرة على القيام بمهامها الاستراتيجية والتكتيكية دولة وأفرادا، متخذين من القرآن الكريم منهجة للحياة ، ومن الآخر ( التجربة اليابانية على سبيل المثال ) منهجة للتكنيك والتقنية ..
فإذا كان الآخر يمتلك كثافة في وسائله الغازية ، ويمتلك مشاريعه التآمرية الموجهة نحونا ..فإن المسئولية تقع علينا أولا وأخيرا ،فالفرق كبير بين الغزو الثقافي وبين المثاقفة ، والفرق كبير أيضا بين أن يلعب الآخر بثلاث ورقات، وبين أن نجمد سبعة وتسعين ورقة لا نلعب بها !!.
البحث الثاني
هدف الغزو- وإن كان عسكرياً بالدرجة الأولى- هو احتلال الأرض، أما الغزو الثقافي فيهدف إلى احتلال العقل؛ فهو أخطر من الغزو العسكري، وعلامة ذلك أن الغزو العسكري يستمد قوته من آليات الإخضاع الخارجي، بينما ييسّر الغزو الثقافي آليات الإخضاع الداخلي، مما يبدو وكأنه تعمية للحال، أو تجميل له، فيُقبل الإخضاع على أنه شيء آخر غير الإخضاع، لالتباسه بمفاهيم كثيرة تتصل بعمليات التكوين الذاتي، كالنمو والاستقلالية والأصالة والصلابة والسلطة والمناعة والوعي.. الخ.
وما يزال أمر الغزو الثقافي، استتباعاً لذلك، محيراً لدى الكثيرين؛ إذ لا ترى فئة من الناس أنه غزو، فتختار له تسميات أخرى، وتهون فئة أخرى من شأنه على أن الحديث عنه وعن مخاطره ألعوبة أو وهم، بل إن فئة ثالثة تدعو له سبيلاً للمثاقفة، وهؤلاء يهونون أيضاً من أمر المثاقفة، فلا يجدون فيها تأثير ثقافة غازية قاهرة في ثقافة مغزوة مقهورة، وإنما يعدون المثاقفة تلاقحاً معرفياً وحضارياً يعزز التواصل بين (تراثات) الإنسانية، ويغنيها، ويوردون حججاً لا نهاية لها عن العلاقات الثقافية بين الشعوب، واستكمال شروط النهضة أو التقدم، وهل علينا أن نذكر الخلاف القائم حول الحملة الفرنسية على مصر؛ هل كانت نعمة أم نقمة؟ فهناك من يتباكى على خروج المستعمر من بلاده، وكنت قرأت نصاً لأحدهم يصف تجربته في المعتقلات الصهيونية في فلسطين المحتلة، يعجب فيه من ديمقراطية العدو الإسرائيلي وتقدمه، مؤكداً أن السيء هو إجراءات الاعتقال والتعذيب...الخ.
إن ابن خلدون كان يعني الغزو الثقافي في قوله الواضح: (إنما تبدأ الأمم بالهزيمة من داخلها عندما تشرع في تقليد عدوها).
كان الغزو العسكري يستهدف احتلال الأرض، فهو غزو من الخارج، من أجل الهيمنة السياسية التي تصل إلى حد إلحاق المستعمَر (بفتح الميم) بالمستعمِر (بكسر الميم)؛ وحدث هذا مع الجزائر والهند على سبيل المثال، ومن أجل الهيمنة الاقتصادية، لدوام النهب الاستعماري لخيرات الشعوب وثرواتها الطبيعية ومواقعها الاستراتيجية.
غير أن الغزو الثقافي يستهدف احتلال العقل، فهو غزو من الداخل، وهوالأخطر، لأنه يضمن بعد ذلك، في حالات الضعف الذاتي وتخريب المناعة الذاتية، دوام الهيمنة على الإدارة والإمكانات القومية برمتها. لقد تطور الاستعمار كثيراً، من شكله القديم العسكري المباشر، إلى شكله الجديد الاقتصادي؛ سواء تأمين المصادر أو الطاقة أو الثروات الطبيعية، أو البحث عن أسواق، إلى الاستعمار الثقافي، المختلف على تسميته، الذي لا يحتاج إلى الأسلحة التقليدية، لأنه مزود بسلاحه الفتاك الداخلي، أعني به التنميط الثقافي من خلال آلية صناعة العقل.
إن مفهوم الغزو الثقافي ملتبس - كما أشرنا - في تاريخه، وفي إطاره المعرفي، وفي علائقه المتشابكة والمتداخلة مع مفاهيم أخرى، مما يدعونا لإضاءة هذا المفهوم:
المفهوم:
(1) الاستقطاب والهيمنة:
تشكل مفهوم الاستقطاب بعد الحرب العالمية الثانية، حين انقسم العالم إلى معسكرين، الأول يدور حول القطب الأمريكي، والثاني حول القطب السوفييتي، وصارت الحروب تتحول إلى بؤر توتر صغيرة، أما الحرب الكبرى فهي الحرب الباردة، التي خف أوارها، وأخذت أشكالاً أخرى، بعد المتغيرات العنيفة أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات، لعل أهمها الزلزال السوفييتي الذي أنهى أحد هذين القطبين، وانهارت معه منظومة الدول الاشتراكية، والأهم من ذلك حالة صراع مرهونة بعلاقات دولية، صار فيها الاستقطاب متجهاً إلى قطب واحد مهيمن هو الولايات المتحدة، بما يعني ذلك من ترافق الاستقطاب مع التقنية، المعلوماتية، الاتصالات، العلم. ولا شك في أن سلطان الواحدة منها يفوق السلاح التقليدي أضعافاً مضاعفة، إنها الثروة والمعرفة، وهما تتبادلان الأدوار، وتتكاملان فيما بينهما.
(2) التبعية:
ظهر مفهوم التبعية في إطار الاقتصاد في الستينات، تفسيراً للتخلف الذي اتسم به اقتصاد بلدان العالم الثالث؛ مما طرح في المقابل، ضرورات النمو المتسارع للوتائر الاقتصادية (مشمولة فيما بعد بالوتائر الاجتماعية والسياسية)، وهي التي اصطلح على تسميتها بالتنمية، غير أن اندماج هذا النمو، وتلك التنمية في الاقتصاد العالمي - وهو اقتصاد المركز المتقدم، الأمريكي والأوروبي، أو الدولة الصناعية، أو دول الشمال - جعل اقتصادها يخدم الاقتصاد العالمي، أو ما عرف باسم التنمية الموجهة للخارج، وقوامها تغذية المركز بالمواد والخامات والنفط، وتصريف منتجات المركز.
وهذا هو مفهوم التبعية، بدأ اقتصادياً، ثم ما لبث أن امتد إلى المجالات الكونية الأخرى، مع تحول العالم نفسه إلى قرية صغيرة كونية، بفضل استفحال تأثير سلطات العصر التي أشرنا إليها، ولا سيما الاتصالات والمال والاقتصاد والمعلوماتية.
إذن صار هناك مركز متبوع، وأطراف أو هوامش تابعة، وقد تنبه الكثيرون لخطر هذه التنمية الموجهة إلى الخارج، إنها تفاقم خطر التبعية، بعزل التنمية عن أبعادها الشاملة والمتكاملة والمستقلة، إذا أغفلت أبعاد التنمية الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تضمن الهوية الثقافية، والاستقلال السياسي، ومواءمة الخيارات لخصوصياتها التاريخية والبيئية والاجتماعية والحضارية.
وكلما فشلت تجربة تنموية، وما أكثر التجارب الفاشلة، انزلقت بسرعة إلى مهاوي التبعية؛ لأن من شروط التنمية الناجحة شمولها وتساوقها مع التنمية الثقافية والاجتماعية من جهة، واستقلاليتها من جهة أخرى.
وغني عن القول بعد ذلك، أن التبعية الثقافية والإعلامية أخطر من التبعية الاقتصادية، لأن الأولى تتجه إلى رهن الإرادة القومية والوطنية، بما في ذلك استتباع القرار القومي والوطني - الذي ينبغي أن يكون مستقلاً - لهيمنة المركز، وعلى رأسه الولايات المتحدة.
(3) التغريب:
يفيد معنى التغريب أمرين، الأول سيادة النزعة الغربية، أو الاحتذاء بالغرب (أوروبا والولايات المتحدة)، والثاني هو الاستلاب أو الاغتراب؛ أي خلق هوة بين المرء وواقعه، حين تغلف الذات بمشاعر الغربة والوحشة والانخلاع والانسلاخ، واللا إنتماء بعد ذلك.
ويفيد المعنى الاصطلاحي شعور المرء بأنه مبعد عن البيئة التي ينتمي إليها، فيصبح منقطعاً عن نفسه، ويصير عبداً لما حوله، يتلقى تأثيره المتمثل في إنجازات الإنسان ومواصفاته ونظم حياته، دون فعالية تذكر.
والأمران يتوافقان أو يتكاملان فيما بينهما، في حالة الثقافة العربية التي تعاني التغريب، بما هو فك العرى الوثيقة بينها وبين تاريخها وتراثها، وبينها وبين وظائفها التاريخية والعضوية والنفسية.
لقد شكلت ثقافة الغرب بالنسبة للعرب والثقافة العربية، الاستعلاء والتكبر؛ تعبيراً عن موقع الغربي، وكانت العلاقة الاستشراقية محكومة بموقعه كمستعمر، وكلما اتسعت حلقات وعي الذات القومية والوطنية إزاء الآخر الغربي، توضحت بجلاء أكبر، حدة المعاناة التي تواجهها الثقافة العربية في مواجهة التغريب، احتذاء بالغرب، أو سلباً واغتراباً عن الهوية والخصوصيات الثقافية بتأثير الغرب نفسه، منتج وسائل التغريب الضخمة.
(4) التنميط:
يعبر الغزو الثقافي عن آليته، أساساً، بالتنميط الثقافي الذي يعني إنتاج نمط ثقافي واحد وفق إرادة المنتج المهيمن، ويكون ذلك عبر وسائل السيطرة المختلفة كالتقنية والمعلوماتية والاتصالات، ولا سيما استعمال الأقمار الصناعية.. ولا شك أن أخطر مظاهر التنميط وسيلة، هو شيوع ثقافة الصورة بديلاً عن ثقافة الكلمة، وانتشار الكتاب الإلكتروني (أقراص CD-ROM ) بديلاً عن الكتاب المطبوع؛ مما يضع جمهور الأطفال والناشئة أمام الاستبداد التقني الذي يقلل الخيال والإبداع بعد ذلك، ناهيك عن سرقة الوقت، وهدر الطاقة الجسمية، والمشاعر والأفكار، ووضع هذا الجمهور في حالة عطالة ذهنية وثقافية أمام منتجات التنميط الثقافي وقوتها الهائلة.
غير أن خطورة التنميط تبلغ مداها الأقصى عند تقبلها من الداخل حين تفلح أدوات الهيمنة ووسائل السيطرة في (صناعة العقول)، (وهو عنوان كتاب آخر). وفي الحالات جميعها، فإن خطر التنميط الثقافي يتزايد، كلما كان تقبله متاحاً وميسراً، ولهذا ظروفه وشروطه.
(5) التغطية:
وهو أسلوب إعلامي على سبيل التضليل، بقصد قلب الحقائق أو تزييف الوعي، وتشكيل العقل وفق إملاء شروط الهيمنة. وكان قد وضّح مثل هذا المفهوم خير توضيح إدوار سعيد في كتابه (تغطية الإسلام) (1982 بالإنكليزية) وهو عن التضليل الإعلامي والأيديولوجي الذي مارسته وسائل الإعلام الأمريكية للتغطية على الإسلام، والحكم عليه بالإرهاب.
وليس بمقدورنا أن نعدد أمثلة التغطية التي حدثت، وما تزال، في قضايا كثيرة، وهدفها الأوحد هو التضليل وتزييف الوعي. إن الامتدادات الجبارة للمعلوماتية والاتصالات هي الأداة الأولى للتغطية، وينبغي الوعي بمدى القوة الاستعمارية لهذا الأسلوب في عمليات احتلال العقل، أو الغزو الثقافي.
(6) العولمة:
تعددت تعريفات (العولمة) حتى إن بعضهم (إسماعيل صبري عبد الله) اقترح تعريفاً آخر لها هو (الكوكبة)، غير أن أقربها دلالة هو جعل نمط العيش والثقافة عالمياً، لئلا نأخذ بجانبها السلبي فقط الذي يرى فيها توحيداً للاستهلاك، وخلقاً لعادات استهلاكية على نطاق عالمي.
وأضاف بعضهم لمجالاتها المال والتسويق والمبادلات والاتصال... ويتفق هذا التعريف مع الذين يقولون أن العولمة هي نقل الشيء من النطاق الوطني أو القومي إلى النطاق العالمي، غير أن هذا التعريف هو الأشمل بتقديري.
ولما كانت الولايات المتحدة هي القادرة على جعل هذا النمط أو ذاك عالمياً، وجعله على طرائقها وتنظيمها المجتمعي والكوني، فتغدو العولمة بتعريفها الحالي أمركة العالم، وهو طموح قديم للولايات المتحدة، حيث قال الرئيس الأمريكي (غروفر كليفلاند) (1893): (إن دور أمريكا الخلاق هو تحضير العالم، ليصبح أمة واحدة تتكلم لغة واحدة)، وعبّر عن هذا الطموح فيما بعد بعبارة (النظام العالمي الجديد) بزعامة الولايات المتحدة، وهو شعار الدولار الأمريكي الذي أخذ شكله منذ نهاية القرن التاسع عشر؛ إذ يوجد على الدولار صورة لهرم تعلوه عين إنسان، ووضعت في أسفل الهرم عبارة (النظام العالمي الجديد).
وتؤثر (العولمة) سلبياً في الطرف الضعيف الواهن، ففي الاقتصاد والمال، تفتقر دول العالم الثالث إلى الفعالية في (العولمة)، لأنها مستهلك أولاً، ومستهلك للمنتجات الأقل قيمة ثانياً؛ ويتفاقم التأثير السلبي في مجالات العلم والتقنية والمعلوماتية والاتصالات، لأنها لا تنتج، أو لا تشكل مشاركتها في الإنتاج العالمي نسبة تذكر، وهذا يعني أن الخاسر في العولمة هو الأضعف في حلقة الإنتاج، ليكون في النهاية مستهلكاً، متلقياً، مستلب الإرادة والفاعلية.
وفي العولمة الثقافية نميز دائماً بين مفهومها (أمركة العالم)، وبين مفهومها الآخر (كنظام عالمي ثقافي جديد، يقوم على احترام مبادئ عقد التنمية الثقافية) الذي أقرته الأمم المتحدة عام 1989م. وهي مراعاة البعد الثقافي للتنمية، وتأكيد الهوية الثقافية وإثرائها، وتوسيع نطاق المشاركة في الحياة الثقافية، وتعزيز التعاون الثقافي الدولي، ولعل الفرق بين المفهومين واضح، لا لبس فيه، إذ يتبدى في إشكالية السيطرة العالمية الكامنة في العولمة عبر إنتاجها الاحتكاري
لأدوات الهيمنة.
البحث الثالث
الأمم العظيمة تعتز بهويتها، وتقدم اسهامها في الحضارة الإنسانية من موقع المستقل المتحرر، وترفض الذوبان الحضاري والانسلاخ الثقافي.
الأمم العظيمة ترفض التقليد والتبعية، وتدافع عن حقها في الوجود والحياة، وتحول تجربتها التاريخية إلى أداة لتحقيق النهضة والتقدم.
ومن المؤكد ان الأمة الإسلامية أمة عظيمة أراد الله لها أن تكون فاعلة في التاريخ، وأن تقوم بأداء الوظيفة التي خلق الله البشرية للقيام بها. وهي أمة صاحبة حضارة متقدمة تمتع الإنسان في ظلها بالعدل والحرية لقرون طويلة.
حالة الضعف التي مرت بها الأمة الإسلامية منذ القرن السابع عشر لم تكن نتيجة ضعف ذاتي في الأسس الفكرية والثقافية التي قامت عليها هذه الحضارة، ولكنها كانت نتيجة لعوامل الفرقة والخلاف والصراعات الداخلية.
استغل الغرب حالة الضعف تلك ليسيطر على بلاد المسلمين عسكرياً، ويبدد الملايين منهم في حرب انتقامية عدوانية غاشمة.
لم يكن السلوك الغربي ضد المسلمين منذ سقوط الأندلس حتى الآن ينبع من حضارة إنسانية لها معاييرها الاخلاقية، ولكنه ينبع من رغبة متوحشة في الانتقام والإبادة.
دراسة الاستعمار الفرنسي في الجزائر توضح تلك الحقيقة، كانت فرنسا التي تدعي التمدين والحضارة وترفع شعارات الحرية تقوم بعملية إبادة لشعب الجزائر، وهي إبادة مادية وثقافية، حيث كانت تريد فرنسة الشعب الجزائري بمعنى أن يتخلى بشكل كامل عن هويته الإسلامية، ويصبح فرنسيا يتحدث لغة فرنسا، ويتبع نموذجها الحياتي.
لكن فرنسا فوجئت بأنها قد فشلت برغم عنف عملية الابادة المادية، وأن الهوية الإسلامية لا يمكن أن تقتلع من نفسية الجزائريين لأنها تشكل حياتهم وشخصيتهم وتاريخهم ومستقبلهم.
الجزائر تعود لمحمد
لقد فوجئت فرنسا بعد أكثر من قرن من عمليات الابادة والقهر والتخويف بأن الجزائريين يخرجون إلى الشوارع يرفعون شعار الجزائر تعود لك يا محمد. ولقد كان أهم انجازات ثورة الجزائر أنها أوضحت لفرنسا ولكل العالم أن الهوية الإسلامية لا يمكن ان تنتزع من نفوس آمنت بالله، وذاقت حلاوة الإيمان.
تجربة الجزائر أثبتت ان عمليات الإبادة والقهر المادي مهما بلغت قسوتها فانها لا يمكن أن تحول ولاء الناس وتغير مشاعرهم وتبدل شخصيتهم. صلابة الجزائريين تجلت غداه ثورتهم في إعلان هويتهم الإسلامية والتمسك بهذه الهوية باعتبارها تشكل الحرية والاستقلال والتميز الحضاري.
شعب الجزائر أثبت ان المسلمين مهما انهزموا فإنهم قادرون على تحقيق الانتصارات، وتحقيق الاستقلال عندما يتشبثون بهويتهم الإسلامية، ويعتزون بها، ولذلك لم تجد فرنسا في مواجهة هذا الموقف بديلاً سوى الانسحاب والتخلى عن الحلم الفرنسي في تحويل الجزائر إلى قطعة من فرنسا.
لقد كان شارل ديجول حكيماً عندما قرر الانسحاب من الجزائر، وفرنسا ستظل تدين لهذا الرجل بحياتها لأنه لو لم يتخذ قراره بالانسحاب لظلت تغوص في المستنقع الجزائري حتى تنهار. لقد فضل ديجول بشجاعته الاعتراف بالهزيمة والانسحاب وبذلك أنقذ فرنسا.
أمريكا لم تفهم
لكن أمريكا لم تفهم الدرس، وهي تكرر تجربة فرنسا، قد يكون أسلوبها أكثر مكراً وأشد كيداً. فهي قد تحالفت مع النظم الاستبدادية في العالم الإسلامي بهدف فتح المجال للغزو الثقافي الغربي، وتغيير نظم التعليم لحرمان الناس من الحصول على المعرفة التي تعزز شعورهم بالانتماء للإسلام، وتزيد قدرتهم على تشكيل حياتهم طبقاً لمبادئه.
أمريكا تعرف تماماً أنها لن تنجح في السيطرة على العالم الإسلامي إلا عندما تتمكن من تشكيل حياة الناس بمعزل عن الإسلام، وتغييب المعرفة التي تؤدي إلى اعتزاز الناس بهويتهم الإسلامية.
وأمريكا أنفقت الكثير من الأموال، ومازالت تنفق ليتغير مضمون المناهج التعليمية في العالم الإسلامي. والهدف بوضوح هو ابعاد الناس عن الإسلام بمفهومه الشامل الذي يشكل الحياة كلها، ويربط بين الدين والدنيا، والعبادة والسياسة، ويؤهل الناس للعمل والبناء وتحقيق النهضة، وتشكيل الحضارة واعمار الأرض.
آخر ما تفتق عنه الكيد الأمريكي هو تقديم ملايين الدولارات لرئاسة السلطة الفلسطينية لبناء نظام تعليمي بديل لذلك النظام الذي تسيطر عليه حماس.
أمريكا تعرف أن أهم انجازات حماس هو الانجاز الثقافي التعليمي الذي شكل شعور الشعب الفلسطيني الذي أصبح يعتز بهويته الإسلامية، ويدرك أن تلك الهوية هي أهم أسلحته في مقاومته التاريخية للاحتلال، ويدرك أيضاً ان اعتزازه بتلك الهوية هو أهم مؤهلاته النضالية الإنسانية الحضارية التي ستجعله قادراً على تحرير أرضه مهما طال الزمن.
هوية البشر ترتبط بهوية الأرض، وفلسطين بتاريخها وجغرافيتها وبشرها وحضارتها إسلامية، وهي ترتبط بهوية الأمة، وعلى هذه الأرض سوف تتجمع يوماً كل الخبرات التاريخية للأمة لتطرد المحتل الغاصب وما قامت به أمريكا في فلسطين من المؤكد انها قد قامت به في الكثير من الدول العربية والإسلامية حيث دفعت النظم الحاكمة ترغيباً وترهيباً، قهراً واجباراً واغراء على تعديل مناهجها التعليمية وحذف كل المضمون الذي يساهم في تشكيل الهوية ليصبح هدف التعليم هو تخريج عمال مهرة يستطيعون الحصول على فرص عمل في شركات الأعمال، وفي ظل اقتصاد متعولم أو متأمرك، دون أن يطمح أحد منهم إلى ممارسة دور في العمل العام، أو يهتم بشؤون الأمة، أو يعتز بالانتماء لها.
إعلام بلا هوية
ما تقوم به أمريكا لاجبار النظم الحاكمة في الدول الإسلامية على تعديل مناهجها التعليمية تكملة بدفع تلك النظم إلى فرض القيود على إنشاء وسائل إعلامية جادة تحقق حق الجماهير في المعرفة، وفتح المجال فقط أمام الوسائل التي تهدف إلى تحقيق التسلية واشاعة الفاحشة، وجذب الشباب عن طريق اثارة الغرائز.
لقد أصبح الكثير من وسائل الإعلام في العالم الإسلامي أدوات للغزو الثقافي الغربي، وما تقدمه هذه الوسائل يتعارض مع الخصوصية الحضارية، والذاتية الثقافية للأمة الإسلامية.
لقد وفرت هذه الوسائل الفرص للانحراف الأخلاقي الناتج عن التشبه بالغرب، وتقليد النموذج الحياتي الغربي، حيث يتم التركيز على الحصول على المتعة وتحقيق النجاح المادي.
اننا لابد أن نعترف أن الغزو الثقافي الغربي قد حقق نجاحا، وأدى إلى خسارة الأمة للكثير من شبابها، لكن ذلك كان بسبب ضعف النظم الحاكمة واستسلامها للمطالب الأمريكية.
كما أننا لابد أن نعترف بأن المعركة في ميدان الثقافة والفكر والتعليم والإعلام قد تكون أصعب من كل أشكال الحرب.
لكن الأمة لابد أن تواجه الغزو الثقافي الغربي، ولابد أن تنتصر، فتلك معركة حياة ودفاع شرعي عن الذات وعن حق الاجيال القادمة في مستقبل أفضل، وعن حق الأمة في التحرير والاستقلال.
معركة الهوية
ان الأمة الإسلامية لابد أن تشكل الأجيال القادمة على أساس الاعتزاز بالانتماء إلى خير أمة أخرجت للناس كما وصفها الله سبحانه وتعالى.
الاعتزاز بالهوية يكسب الأمة قوة، ويشحذ عزيمتها للبناء، وتحقيق النهضة، لذلك فإن مواجهة الغزو الثقافي الغربي في مجال التعليم والإعلام يجب أن تحتل مكانها في المشروع الحضاري الإسلامي.
الأمة تحتاج إلى نظام تعليمي يشكل الشخصية الإنسانية المتكاملة القادرة على الإبداع كأستاذ وليس كمقلد تابع للغرب.
الأمة تحتاج إلى نظام تعليمي لا يكتفي بتعليم المهارات الفنية التخصصية اللازمة لسوق العمل، ولكنه يبني الشخصية القوية التي تعتز بهويتها، وتفخر بالانتماء إلى خير أمة أخرجت للناس، وتقوم بوظيفة هذه الأمة في بناء الحضارة.
الأمة تحتاج إلى إصلاح نظامها التعليمي ولكن ليس طبقاً لمتطلبات الإدارة الأمريكية وشروطها، ولكن طبقاً لمشروع حضاري إسلامي يعيد للأمة حقها في النهضة والتقدم والحرية والاستقلال.
وفي الوقت نفسه تحتاج الأمة إلى نظام إعلامي جديد يتيح إنشاء الكثير من وسائل الإعلام التي تقدم للجماهير الإسلامية المعرفة، والمضمون الجاد الذي يساهم في تطوير كفاحها ضد الاستعمار العسكري والثقافي.
الأمة تحتاج إلى وسائل إعلامية جديدة تقدم لها مضموناً يساهم في زيادة اعتزازها باسهامها الحضاري التاريخي ويعرف الأجيال الجديدة بالتجربة التاريخية الطويلة.
من المؤكد ان الغزو الثقافي الغربي سوف يفشل وستعود الأمة إلى الإسلام ليشكل دورتها الحضارية القادمة، ولكننا يجب أن نحقق شروط النصر بمواجهة الغزو الثقافي الغربي، ببناء نظام تعليمي وإعلامي جديد.
ولكي ندافع عن حقنا في الحياة وفي الحرية والاستقلال لابد أن نعيد إلى شبابنا الفخر بالهوية الإسلامية، والاعتزاز بالانتماء للأمة، والثقة في قدرتها على تحقيق النصر والنهضة والتقدم
.