السلام والرحمة
.....................
فضائلُ الصَّحابيِّ الجَليلِ مُعاوِيَةَ بنِ أبِي سُفيانَ
-رَضيَ اللهُ عنهُ-
خُطبَتَا جُمعَة
لفضيلةِ الشَّيخ عُمر أبُو طَلحةَ
-حَفظَهُ اللهُ-
الخطبة الأولى:
إن الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يضللْ فلا هاديَ له. وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد: فإنَّ أصدقَ الكلامِ كلامُ الله -عز وجل-، وخيرَ الهَدْي هَديُ محمدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وسلَّم-، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدَثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضَلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
عبادَ الله:
مُعاوية بن أبي سُفيان، رجلٌ من أصحابِ النبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وسلَّم-.
رجلٌ قدَّم للإسلام، وقدَّم للمسلمين، وزرعَ راياتِ التوحيدِ في أصقاع الأرضِ.
جُهدُه في الإسلامِ: لو أنَّنا -جميعًا- بذَلنا ما بذلنا، وعشنا مع أعمارِنا أعمارًا -ولا أقول هذا لأهلِ مَسجدِي! أقولُ لأهل الإسلام-في الأرضِ-اليوم- ما استطاعوا أن يقدِّموا للإسلامِ ما قدَّمه هذا الرجل.
أسلم -رضِيَ اللهُ عنهُ- قبل الفَتح، وقيل: أسلم يومَ الفتح، وحَسُن إسلامُه.
اتَّخذه النبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- كاتبًا لوحيِ ربِّ العالمين، وأمينًا على كتاب الله.
تزوَّج -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- أختَه أمَّ حَبيبة؛ فصار مُعاوية خالًا للمسلمين.
لَزِم رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-.
شَهِد المشاهد كلَّها بعد إسلامه -جنبًا إلى جنبٍ مع النبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-.
مُعاوية رجل حمل سيفًا ودافع به عن وجهِ رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وسلَّم-.
شهد حُنينًا والطَّائف.
بذل له النبيُّ -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- في القَسم مائةَ بعيرٍ وأربعين أوقيَّةً مِن الذهب.
شهدَ مُعاوية (حربَ اليمامةِ)، أبلى فيها بلاءً حسنًا، وما أدراكم ما اليمامة! أعظم حربٍ خاضها الصحابةُ -بعد موت النبي-صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، قدَّم فيها مُعاوية، وانتفع النَّاس برأيِه ودهائه، وكان أحدَ المشارِكين في قتل مُسَيلمة الكذَّاب مع وحشيٍّ، ضربه في نفسِ الوقت الذي ضَربَه وحشي، حتى ذكر الحافظُ ابن كثير في " البداية والنِّهاية ": أنه لا يُعرف أي الرَّجلين أسرع في قتل مُسَيلمة الكذَّاب.
ذكَرَه النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- في غير ما حديث.
مِن هذه الأحاديث الدَّالة على فضائِله ومَناقِبه:
ما رواه الإمام أحمد في "مُسنده"، والبخاري -رحمه الله- في "تاريخه الكبير"، والتِّرمذي في "سننه"، وغيرهم من حديث عبدِ الرحمن بن أبي عُميرةَ الأَزدي قال -رضِيَ اللهُ عنهُ-، وقد سمع رجالاً يَذكرون مُعاوية بسوء-؛ فقال: (لا تفعلوا! لا تذكروا مُعاوية إلا بخير؛ فوالله: لقد سمعتُ رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وسلَّم- يذكرُ مُعاوية؛ فيقول: "اللهم! اجعلْهُ هاديًا مهديًّا، واهدِه واهدِ به").
دعاء رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-.
وأيضًا: روى الإمام أحمد في "مُسنده"، والنَّسائي في "سُننه"، وابن خزيمة في "صحيحه"، وغيرهم، عن العرباض بن سارِية قال: دخلتُ على رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- في رمضان عند السَّحَر، فإذا هو رافع يَدَيه يدعو لمُعاوية؛ يقول: "اللهم! علِّم مُعاويةَ الكتاب والحساب، وَقِهِ العذاب"، ورواهُ غيرُهم مِن حديث ابن عبَّاس وأبي هُريرَة ومَسلَمَة وغيرهم من أصحاب النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-،
وفي بعض ألفاظه: "اللهم! علِّم مُعاوية الكتاب والحِساب، وقِهِ العذاب، ومكِّن له في البِلاد"، وكلا الحديثَين مما صحَّحه التِّرمذي والبغوي وابن كثير والذَّهبي والحافظ ابن حَجر، ومِن قبلهم شيخ الإسلام ابن تيميَّة، وغيرهم مِن أئمة العلمِ والورعِ والرِّواية.
والملاحظ أن النبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- دعا لمُعاوية أن يكون مهديًّا -في نفسِه-، هاديًا -لغيره-، عالِمًا بالكتاب والحساب مما يتضمَّن الحكمة، وأن يَقيَه ربُّ العالمين العذاب، وعلَّل ذلك -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- بحكمةٍ بالغة؛ فقال: "ومكِّن له في البلاد"؛ أي: يحتاج مُعاوية لهذه الأدعية من رسول الله -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-؛ لأنه سيملِك -في يوم مِن الأيام- العرَب والعجم، مع أنه كان -آنذاك- فقيرًا صعلوكًا لا يجد مالاً -كما ثبت عنه في الصَّحيح-، ومع ذلك يدعو له -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- بذلك؛ لأنه -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- أخبر في غير ما حديث إشارةً إلى مُلك مُعاية -فيما يأتي-؛ حتى عدَّ البَيهقيُّ، وأبو نُعيم، والشَّاطبي -أيضًا- في "الموافقات"، وغيرهم أنَّ مِن دلائل نبوة نبينا -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- إخبارُه بمُلك مُعاوية وقد كان؛ كان أميرًا عشرين سَنة، وخليفةً عشرين سَنة، فاستتمَّ المُلك له أربعين سَنة.
مِن مَناقبه: أنه كان كاتبًا للوحي،
*- حتى قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة: "إذا ذُكر كاتب الوحي عند النبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- فأوَّل مَن يدخلُ به مُعاوية وزيدُ بنُ ثابت"؛ فهُم ألزم وأخص الكتَبة عنده -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-.
وكافيهِ شرفًا أنه صحابي.
إن شَرف الصُّحبة لا تعدله فضيلة.
*- سُئل الإمامُ أحمد عن مُعاوية؛ فبكى -رضِيَ اللهُ عنهُ-، وقال: "مثلي يُسأل عن مُعاوية! إنه رجل مِن أصحاب النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-" اكتفى بهذا!
*- المعافَى بن عمران، قيل له: أتُفضِّل مُعاوية، أم عمرَ بن عبد العزيز؟
فقال: "أعوذُ بالله منكم! أتَقيسون رجلاً مِن غير الصَّحابة برجلٍ من أصحاب النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-؟!! إنه لا يُقاس بأصحاب رسولِ الله مَن جاء بعدهم".
مِن شرفِه وفضائِلِه: أنه أول مَن جيَّش الجيوش التي تغزو وتفتح الفتوح تركَبُ البحر، أوَّل أسطول بحريٍّ في الإسلام أسَّسه مُعاوية، وخطَّط له، وأَمَر به، وأرسلَه مع جماعةٍ من الصَّحابة منهم: عبادة بن الصامت، وأم
ملحان بنت حرام، بقيادة يزيد بن مُعاوية -وهو ولده الأكبر-.
لما أن كان أميرًا لعُمَر على الشام، كان يقول لعُمَر: (يا أمير المؤمنين! مُرني فلأركب البَحر!) فكان عمر يخاف على جيش المسلمين من ركوب البحر، وكذلك كانت العرب، فكان بعد ذلك يأمر عثمان في خلافته فيأبى، فلما استتم الملك لمُعاوية؛ صنع ما كان يريد: أسَّس أسطولاً بحريًّا عظيمًا، وأركب عليه الآلافَ من جيش المسلمين، وأرسله -بعد ذلك- يَفتح الفتوح -فيما وراء البحر-.
وهذا الجيش ذَكرهُ النبي -صلى الله عليه وسلَّم-، كما في الحديث الصَّحيح: فقد نام -عليهِ الصلاةُ والسلام-يومًا- واستيقظ فَرِحًا، وقال لمن سأله عن فَرَحِه: قال: "لقد رأيتُ في منامي" ورُؤيا الأنبياء حق "جَيشًا مِن أمَّتِي هُم أوَّل مَن يَركبُ ثَبَجَ البَحر، كالمُلوك على الأسِرَّة، أَوجَبُوا" يعني: غفر الله لهم "أوْجَبُوا" يعني: وَجَبت لهم الجنَّة "قد غفر الله لهم".
وأجمعت الأمَّة أن هذا الجيش هو أوَّل جيش رَكب البحر كان بأَمر مُعاوية، وفي عهدِه، وفي تخطيطه، وفي تنسيقه -رضِيَ اللهُ عنهُ-.
لا عجب في ذلك!
مُعاوية مَفطور على سجيَّة الحرب وصِناعة الحرب، والنَّاس -كلُّهم- يَعلمون أن مُعاوية من دُهاة العرب، كم فتح الله بهذا الرَّجل مِن الفتوح، ما زال ملكه على الإسلام يُمنًا وبركةً.
مُعاوية بن أبي سُفيان، مَن يعرف فضل هذا الرَّجل، لقد زرع العزَّة والتَّمكين في قلوب الناس -في زمانه-، ألا يكفيهِ هذا شرفًا؟!
لقد فتح بواباتِ الجهاد على مِصراعيها؛ حتى مَلَك كلُّ مسلمٍ يدُب على الأرض العزَّةَ والكرامة.
جيوش الإسلام تسير -شرقًا وغربًا-: فتح أفريقيا، قِنَّسرين، أنطاكيا، القُسطَنطِينيَّة . . يرسل الجيوش -يمنةً ويَسرةً-، وفي كل أرض يحلُّها جيشُ مُعاوية تُزرعُ رايةُ الإسلام . . هكذا في أصقاع الأرض.
كم له مِن الشَّرف في فتح بلادٍ درَّت الخيرَ على المسلمين، وأدخلت الآلاف المؤلَّفة يَعرفون التَّوحيد بعد أن كانوا لا يعبدون الله -سبحانه وتعالى-.
والذين يَطعنون في مُعاوية -في زمانِنا هذا- يتغافَلون عن فضيلتِه -هذه-.
إن مِن العجب واختِلال الموازين: أن يكون لجمال عبد النَّاصر، أو لحسن نصر الله، أو لصدَّام، أو لغيرهم -واللهُ أعلم بحقائقِ العِباد- مِن الاحترام والتَّبجيل في قلوب كثيرٍ مِن المثقَّفين -اليوم-؛ لأنهم زعموا نُصرة القضيَّة الفلسطينيَّة -في يومٍ مِن الأيام-.
فأين هم عن عِزَّة الإسلام على يدِ معاوية؟!
ألا يَستحقُّ مُعاوية -عندهم- التَّكريمَ والاحترام؟!
إن الذي صنَعهُ هذا الرجلُ لم يَصنعه الآلافُ المؤلَّفة مِن مِثل المذكورين على لساني؛ بل لا يُقاس هؤلاء بما صنعه مُعاوية!
لكنَّ النَّاس لا يعرفون فضلَه، لقد نَسي النَّاس فضلَ مُعاوية الذي ما عرفنا الإسلامَ إلا بسببِ جُهده وجُهدِ أمثالِه.
رحم الله مَن قال:
إني تذكَّرتُ والذِّكرى مُؤرِّقةٌ ... مَجدًا تَليدًا بأيدينا أضَعناهُ
واللهِ لقد أضعناه؛ لما لم نَعرف شَرَف معاوية و فضلَه!
معاوية؛ أكان النَّاس في زمانِه كالنَّاس في زماننا؟! ألا تَرون ذِلة الإسلام والمسلمين؟!
ألا تَرون أننا فَقدنا -حتى- النَّخوة والمروءةَ والشَّرف؟!
إن الأقصى يُهان، ولا نجدُ من يعرف كلمة مُروءة تنطق على ألسنةِ النَّاس -اليوم-!
لحقتنا المهانةُ والذلة أفلا نعرفُ شَرف الإسلام بِشرف حمَلَتِه ونقلتِه -كمُعاوية- في زماننا العصيب هذا!
إني تذكَّرتُ والذِّكرى مُؤرِّقةٌ ... مَجدًا تَليدًا بأيدينا أضَعناهُ
كَم صرَّفَتْنا يَدٌ كُنَّا نُصرِّفُها ... وبَاتَ يَملِكُنا شَعبٌ مَلَكناهُ
أنَّى اتَّجهتَ للإسلامِ في بلدٍ ... تَجدهُ كالطَّيرِ مَقصوصًا جَناحاهُ
بِاللهِ سَلْ خَلفَ بَحرِ الرُّومِ عن عَرَبٍ ... بالأمسِ كانُوا هُنا واليومَ قد تاهُوا
وانزلْ دِمشقَ واسأل صَخرَ مَسجدِها ... عمَّن بناهُ لعلَّ الصَّخرَ يَنعاهُ
يا مَن يرى مُعاوية تَكسوهُ هَيبتُه ... والعِزُّ فَخرٌ له والفَخرُ مَأواهُ
يَهتزُّ كِسرَى على كُرسيِّه فَرقًا ... منه ومُلوك الرُّوم تَخشاهُ
اللهُ يعلم ما قلَّبتُ سيرتَهم ... يومًا وأخطأ دمعُ العينِ مَجراهُ
خلافة النُّبوة مكثت ثلاثين سَنة -كما قال-صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، وانتهت بالحسن بنِ علي بن أبي طالب، ثم بعد ذلك جاء مُلك مُعاوية، قال فيه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: "ثم تكونُ مُلكًا ورحمةً"؛ فهو أوَّل ملوك الإسلام وأفضلُهم وأخيرُهم.
إذا قيس مُعاوية بمَن قبله؛ ظهر الفَرق؛ فمَن قبله خيرٌ منه.
وإذا قيس مُعاوية بمَن بعده؛ فأنا أتحدَّاكم أن تَذكُروا لي مَلِكًا أو خليفةً في الإسلام مِن بعد مُعاوية إلى ساعتي هذه قدَّم للِإسلام مِن العزِّ والكرامة ما قدَّمه مُعاوية رضي الله عنه .
له هنَّات، وكل بَشر له أخطاء، حسناتُ المُلوك عظيمة، وسيِّئاتهم تُضخَّم، والفِتن التي حصلت في زمَنِه تُنقل على ألسنةِ النَّاس بالأكاذيب، فمَن عَمِي عن الحق تتبَّع الرِّوايات المكذوبة في التَّاريخ، وغفل عن دلائل الكتاب والسُّنة.
إن مَن يترك كتاب الله الذي أثنى على الصَّحابة، ويتخبَّط في روايات التَّاريخ -مما لا سنام لها ولا خطام-؛ ممن لا يَعرف الحق ولا يريده -أصلًا-.
*- كان عمر بن الخطاب يعرف فضل مُعاوية، ويتفرَّس فيه، رآه يومًا فقال: "تَعجبون مِن دهاء قيصر وكسرى، ولا تعجبون من دهاء مُعاوية؟!!".
*- وثبت عن عمر -بإسناد صحيح-: أنه كان إذا رأى مُعاوية يقول: "هذا كسرى العرب"، ويفخر به!
*-عبد الله بن عبَّاس -من أئمة آل البيت- ماذا كان يقول؟ كان يقول: "والله؛ لا أعرفُ أخلقَ للمُلكِ والإمارةِ في عهدِ مُعاوية من مُعاوية".
*- سعد بن أبي وقاص -من العشرة المشهود لهم بالجنَّة- قال -كما في "سُنن الترمذي"-: "والله؛ ما رأيتُ أقضى بحقٍّ بعد عثمانَ من صاحب هذا الباب" وأشار إلى باب مُعاوية.
*- عبد الله بن عمر -بالأسانيد الكثيرة، والطرق الكثيرة التي صحَّحها أهل العلم- يقول عبد الله بن عمر: "ما أعرِف في الإسلامِ مَن هو أسوَد من مُعاوية" من السِّيادة التي قامت على الحِلم والسُّؤدد والكَرم وسعة العطاء، ودهائه ورأيه.
فقيل له: ولا أبو بكر؟
قال: "كان أبو بكرٍ خيرًا مِن مُعاوية، ومُعاوية أَسوَد!"،
قيل له: وعمر؟
قال: "عُمر خيرٌ من مُعاوية، ومُعاوية أَسوَد"،
قيل له: عثمان؟ فبكى -رضِيَ اللهُ عنهُ-،
قال: "إن كان عثمان لحليمًا سيِّدا، وكان خيرًا مِن معاوية، ومُعاوية أَسودُ مِنه" يعني: كان مُعاوية أَسوَد منه -بالسِّيادة-.
*- علي بن أبي طالِب، قال لأصحابه -يومًا-: "لا تَكرَهُوا إِمرَة مُعاوية؛ فوالذي نفسي بيده؛ لئِن فَقدتُموه؛ لَتَروُنَّ الرُّؤوس تَنزو عن كواهِلها كالحنظل!".
*- قُبيصة بن جابر قال: "كنَّا نشبِّه مُعاوية بالمهدي"، الشَّعبي، إسحاق السَّبيعي، أئمة الإسلام،
*- الإمام الشافعي قال: "لو بَلغكُم عن مُعاوية ما بَلَغَنا؛ لَقُلتم هذا هو المَهدي المنتظَر".
*- أبو الدَّرداء: شَهد له -كما في الصَّحيح- قال: "ما رأيت أحدًا أشبهَ بصَلاة رسولِ الله من مُعاوية".
*- عبد الله بن عبَّاس -كما في "البخاري" (في كتاب فضائل الصَّحابة)-: "لا تَذكروا مُعاوية" يعني: بسوء "فواللهِ؛ إنَّه فقيهٌ، مِن أصحاب رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-".
*- أم المؤمنين عائشة -كما في "السُّنن"- تقول -رضِيَ اللهُ عنهُ-: "ما زالت الفِتنةُ بالنَّاس حتى تمنَّيتُ أن يَزيدَ اللهُ في عُمر مُعاوية مِن عمري".
*- أبو ذرٍّ الغِفاري: "رَحِم الله مُعاوية، لا رَخاءَ بعد مُعاوية، إذا فَقدتُموه؛ عَلِمتم فَضلَه".
*- أبو هُريرَة: "والله لو أدركتم مُعاوية؛ لأدرَكتُم الخيرَ، عضُّوا على مُعاوية بالنَّواجذ".
مَن قدَّم للإسلام مِن كلِّ ملوك الأرض مِن بعده كما قدَّم هو؟!
فمَن ذكر هذا الرَّجل بِسُوء؛ لا يَعرف الصَّحابة، ولا يعرف الإسلام، ولا يُقدِّر تاريخَ المسلمين، وحالُه كالذُّباب لا يقع إلا على النَّتن، يدعُ الخير في سيرةِ الصَّحابة، ولا يقع إلا على النَتن!
نعوذُ بالله مِن هذا الصِّنف من النَّاس، ونسأله -تعالى- أن يُلحقَنا بأصحابِ رسولِه.
أقول ما تَسمعون، وأستغفرُ الله -لي، ولكم-؛ فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، اللهمَّ! صلِّ على محمدٍ، وعلى ألِه وأصحابِه أجمعين.
عباد الله:
كان مُعاوية -رضِيَ اللهُ عنهُ- من الوَرِعين، ومن البكَّائين الوقَّافين عند حدود الله.
روى الإمام أحمد -رحمه الله- في "مُسندِه"، والتِّرمذي في "سُننه"، وغيرهم: أن رجلاً من الصَّحابة -واسمُه أبو مريم- جاء مِن سفرٍ له، مِن غزوٍ له، فمرَّ بدمشق الشَّام، فمرَّ على دار الخلافة ليرى مُعاوية، فوجد الحُجَّاب على باب الخلافة، فما قَدر على الدخول.
فولَّى، فلما كان في بعضِ الطريق، تذكَّر حديثًا سمعهُ مِن رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- فرجع إلى دار الخلافة، فقال للبوَّابين: أليس فيكم رجلٌ رشيد، يقول لمُعاوية: ها هنا رجل مِن إخوانك؛ يقال له: أبو مريم؟!، فدخل رجل فأخبر مُعاوية، فغضب وقال: ويحكُم! أوَحبَستُموهُ عني! أدخِلوه!، فلما دخل على مُعاوية وسَّع له في المجلس، وقال: ها هنا أبا مريم!، فجاء أبو مريم وقعد بجانبِ مُعاوية، ثم قال: يا مُعاوية! يا أمير المؤمنين! واللهِ ما جئتك أطلب حاجة، ولكني ذكرتُ حديثًا عن رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- أحب أن تسمعَه مِني، قال: هات!، قال: سمعتُ رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- يقول: "مَن أغلق بابَه دون ذَوِي الحاجةِ والفَقر أغلقَ اللهُ عن حاجتِه وفَقرهِِ أبوابَ السَّماء".
هذا الحديث من الأحاديث التي ذكرها شيخُنا الألباني -رحمه الله- في "الصَّحيحة".
يا أمير المؤمنين! "مَن أغلق بابَه دون ذَوِي الحاجةِ والفَقر أغلقَ اللهُ عن حاجتِه وفَقرهِِ أبوابَ السَّماء"، فأكب مُعاوية -رضِيَ اللهُ عنهُ- يبكي حتى بلَّ لحيته، وقال: أعِدْ عليَّ، فأعاد الحديث فازداد مُعاوية بُكاءً، ثم قال: تعال يا سَعد! وكان سعدٌ هذا حاجبًا لمُعاوية على الباب، فقال: يا سعد! اسمع ما يقولُ أبو مريم؛ فحدَّثه بحديث رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، ومُعاوية يبكي، ثم قال: اللهم! إني أشهدك أني خَلعتُ هذا الأمر مِن رقبتي، وجعلتُه في رقبة سَعد، يا سعد! لا تحجب ذي حاجة ولا فقير عني، أدخِله، والله يَقضي على لساني ما أَحب.
من ورعِه: ما رواه الإمام أحمد في "فضائل الصَّحابة": عن قيس بن أبي حازم قال: جاء رجل إلى مُعاوية فقال له: يا أمير المؤمنين! أسألك عن حاجةٍ: عن أمرٍ منِ العلم، فسأله، فقال مُعاوية: سلْ عن هذا عليَّ بن أبي طالب؛ فهو أعلم مني.
يقول هذا مع ما كان بينهما من الخصومة . .
سَل عن هذا علي بن أبي طالب؛ فهو أعلم مني. فقال: والله؛ لجوابُك أحب إلي من جوابه! فغضب -رضِيَ اللهُ عنهُ- وقال: ولَبِئس ما قلتَ! لقد ذكرتَ رجلاً كرهتَ علمَه كنتُ أرى رسولَ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- يَغرُّه العلمَ غرًّا، وسمعتُه يقول -مُعاوية ينقل فضائل عليٍّ، وهذا من كمال أدبِه وورعِه ودينِه- يقول: وسمعتُه يقول: "أمَا ترضى يا علي أن تَكونَ مِنِّي بمنزلة هارونَ مِن مُوسى، غير أنه لا نبيَّ بعدي " قمْ عني -يقول مُعاوية لهذا الرجل الذي لا يرضى عِلم علي-، قم عني! لا أقام الله رجليك!
خطب -مرَّة- يوم الجمعة -كما في "مُسند الإمام أحمد"، "ومسند أبي يعلى"- خطب الجمعة، فقال في خُطبته: أيها النَّاس! المالُ مالُنا، والفَيء فيئُنا، من شِئْنا أَعطيناه، ومن شِئنا مَنَعْناه. فلم يُجبه أحد! فلما كان في الجمعة التي بعدها، قال: أيها النَّاس! هذا المالُ مالُنا، والفيء فيئُنا، من شِئْنا أَعطيناه، ومن شِئنا مَنَعْناه. فلم يجبه أحد! فلما كان في الخطبة الثالثة أعاد العبارة؛ فقام له رجلٌ مِن المسلمين، فقال: كلا والله؛ المال مالُ الله، والفيء فيءُ الله، يفعل به ما يَشاء، ومَن مَنَعناه حاسَبناه! فبكى مُعاوية وهو على المنبر، ثم قال: اِلزمْ أرضَك! ابقَ مكانك! فلما انتهى مِن خطبته -رضِيَ اللهُ عنهُ- دعاه وأدخلهُ الدَّار، فظن بعضُ النَّاس أنه هالِك؛ لأنه اعترض على معاوية.
فلما فُتحت الأبواب؛ فإذا هو على السَّرير ومُعاوية بجانبه يُحدِّثه ويَنبسط له في الكلام، فلما دخلوا ومُعاوية يبكي قال: لقد أحيا هذا الرَّجلُ قلبي -أحياهُ الله-، سمعتُ رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- يقول: " يَكونُ فِيكُم أئمةٌ يخطُبون الجمعة يَقولون ما شَاؤُوا ولا يُجيبُهم أحدٌ مِن النَّاس، يتقحَّمُون في جهنَّم كتقحُّم القِرَدة "، وإني خشيتُ أن أكون منهم، وقد ذكرتُ لكم في جُمعتين فلم يُجِبني أحدٌ حتى أجابني هذا؛ فعلِمتُ أني لستُ منهم، لقد أحياني -أحياهُ الله-، ثم أجزل له في العطاء.
شُفيُّ بن ماتع الأصبَحي يَمرُّ بأبي هُريرَة، وأبو هُريرَة في المدينة ويُحدِّث بحديث سَمِعه عن رسول الله -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-؛ ما هو الحديث؟
يقول أبو هُريرَة: كان -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- يقول لنا: " أوَّل مَن يُقضَى به يومَ القيامة: شهيدٌ، وقارئٌ للقرآن، ومُنفِق، يقول الله للشَّهيد: ما عملتَ؟ فيقول: قاتلتُ فيك حتى استُشهدت، فيقول الله له: كذبتَ، وتقول الملائكة: كذبتَ؛ إنما قاتلتَ ليُقال جريء، وقد قيل، اذهبوا به إلى النَّار . ."، وكذلك يُقال في القارئ والمنفِق.
فلما ذهب شُفَي إلى الشَّام مرَّ بمُعاوية فحدَّثه بحديث أبي هُريرَة، فأكبَّ مُعاوية يبكي ويبكي حتى أُغمي عليه، سقط، فلما أفاق قال: أعِدْ عليَّ! وأخذ يبكي حتى أُغمي عليه -وهذا الحديث في "صحيح الإمام مسلم" وهذه رواية التِّرمذي-، ثم قام معاوية -في الثالثة- قال: أعِد عليَّ يا شُفي! فأعاد الحديثَ؛ فجعل يبكي، ثم قال: سبُحان الله! يُفعل هذا بهؤلاء؛ فماذا سيُفعل بنا؟!!
رحم الله مُعاوية! كانت تؤثِّر فيه الموعظة، وكان رقيق القلب، خطب الجمعة -يومًا- وعليه ثوبٌ مَرقوع، وكان أميرًا على الناس!
لما حضرتهُ الوفاةُ، وشعر بالمرض، أرسل لبَناتِه، فقال لابنتِه الكُبرى: إن في خزانتي خِرقة فيها شَعرات أخذتُها مِن رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- لما كنتُ معهُ في الحج، وبلغني أن كعبَ بن زُهير يَملِك ثوبًا من أثوابِه، فدونَكُم حتى إذا اشتريتُمُوه؛ اجعلُوهُ على بَدَني. فاشتراهُ الأولاد بِعِشرين ألفًا مِن الذَّهب. قال: اكسُوني الثَّوب، واجعلوه على بدني، ومن فوقِه الأكفان، وضعُوا الشَّعرات في عينيَّ وفي فَمي، ثم زُجوا بي في القبر، ودعوا مُعاوية وأرحم الرَّاحمين. ثم قال لهم: اتقوا الله! فمَن اتَّقى اللهَ؛ وقاهُ الله، ولا قاء لمن لم يتَّق الله، اللهم! إنَّ عبدك مُعاوية يتمنَّى لو كان رجلًا مِن قريش في ذي طُوى ولم يلِ مِن أمر النَّاس شيئًا، اللهم! إنك علمتَ أنني سِرت على سيرة أبي بكر وعمر، ولنَقل الجبال الرَّاسيات أصعب من السَّير على سيرة أبي بكرٍ وعمر، اللهم! إني قدمتُ وأنتَ أرحم الرَّاحمين.
الطَّاعنون في مُعاوية ظَلَمة؛ لأنهم لم يُنصفوه، قَرؤُوا في التواريخ المحرَّفة، وزادُهم مِن العلم قليل، وبضاعتُهم من المعرفة قليلة، فما وقعوا إلى على أقاويل بعض المحرِّفين -كالمسعودي في كتابه "مروج الذهب"- يَتلاعبون ويَكذِبون على الأمويِّين -خصوصًا على الوُلاة والخلفاء كمُعاوية-، فوضعوا ما وضعوا مِن الأكاذيب، وشوَّهوا سيرته، وأخرجوه مِن الخلفاء الذين يُقاتلون ويَسفكون دماء المسلمين لقاءَ أن يقعد على الكرسي! ما كان كذلك.
كان يعلم عليُّ بن أبي طالب -الذي يقاتلُه- أن مُعاوية لا يُريد المُلك ولا الخلافة، وكان مُعاوية يقولُ: إنه لا أحق بالخلافة مِن علي؛ وإنما أريد قَتَلَة عثمان.
ووقعت الفِتنة، وطارت الأكاذيب، وخرجت الخوارج -فيما بين ذلك-؛ فمَن الذي سيُحقق العدل في ذلك الوقت؟!
كان علي بن أبي طالب لما خرج إلى صفِّين يقولُ لأصحابه: سبحان الله! يَسير أهلُ الجنَّة إلى أهل الجنَّة في قتال واحد!
أسأل الله العظيم ربَّ العرش العظيم أن يُلحقنا بأصحاب رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، وأن يملأ قبر مُعاوية نورًا كما ملأ قلوب المسلمين عزًّا -في زمانِه-، وكما ملأ بلاد المسلمين تمكينًا -في كل أرض يقع فيها-.
اللهم! وفِّق ملِك البلاد للحُكم بالكتاب والسُّنة . .